تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 484 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 484

484 : تفسير الصفحة رقم 484 من القرآن الكريم

** أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ وَهُوَ يُحْيِـي الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّي عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبراً أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير, ثم قال عز وجل: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء {فحكمه إلى الله} أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} {ذلكم الله ربي} أي الحاكم في كل شيء {عليه توكلت وإليه أنيب} أي أرجع في جميع الأمور, وقوله جل جلاله: {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما وما بينهما {جعل لكم من أنفسكم أزواج} أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلاً جعل من جنسكم ذكراً وأنثى {ومن الأنعام أزواج} أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى: {يذرؤكم فيه} أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكوراً وإناثاً خلقاً من بعد خلق وجيلاً بعد جيل ونسلاً بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلاً من الناس والأنعام, وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به {ليس كمثله شيء} أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له {وهو السميع البصير}. وقوله تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما {يبسطُ الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام {إنه بكل شيء عليم}.

** شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّهُ يَجْتَبِيَ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرّقُوَاْ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى لّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ
يقول تعالى لهذه الأمة: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك} فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وهذه الاَية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} الاَية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وفي الحديث «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج} ولهذا قال تعالى ههنا: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف, وقوله عز وجل: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد, ولهذا قال تبارك وتعالى : {وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عز وجل: {ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً. وقوله جلت عظمته: {وإن الذين أُورثوا الكتاب من بعدهم} يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق {لفي شك منه مريب} أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لاَبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.

** فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّهُ رَبّنَا وَرَبّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
اشتملت هذه الاَية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها, قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي, فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه. وقوله: {فلذلك فادع} أي فللذي أَوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك, أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل: {واستقم كما أمرت} أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل, وقوله تعالى: {ولا تتبع أهواءهم} يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله جل وعلا: {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله: {وأمرت لأعدل بينكم} أي في الحكم كما أمرني الله, وقوله جلت عظمته: {الله ربنا وربكم} أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختياراً وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً واختياراً. وقوله تبارك وتعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} أي نحن برآء منكم, كما قال سبحانه وتعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقوله تعالى: {لا حجة بيننا وبينكم} قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف, وهذا متجه لأن هذه الاَية مكية, وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل: {الله يجمع بينن} أي يوم القيامة, كقوله: {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم} وقوله جل وعلا: {وإليه المصير} أي المرجع والمآب يوم الحساب.